الأحد، 23 سبتمبر 2007

الخطاب السياسي الموريتاني بين الإتصال والإنفصال

الخطاب السياسي الموريتاني كائن هلامي قادر علي التشكل بسرعة فائقة ويمتلك القدرة علي الانقسام والانشطار كلما دعت الحاجة إلي ذلك , وهو يفتقر إلي أسس علمية ينبني عليها .
وغياب هذه الأسس وهشاشة بنيته يعودان إلي غياب الدراسات النقدية الجادة التي تحفر في جذور هذا الخطاب وتلاحق مكوناته حتى تقدم طرحا علميا يضمن نشوء مؤسسات قوية ومقنعة سواء لذاتها من حيث قدرتها علي مقاومة الهزات المحتملة, أو بالنسبة للمواطن العادي الذي اعتاد أن ينشطر في كل مناسبة سياسية ملتحفا بكل ألوان الطيف بحثا عن مكسب شخصي ينهبه من الحزب الحاكم أو المعارضة. وبين هذا وذاك تستمر اللعبة السياسية كما هي عليه الآن: لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء.
أعجبتني مقولة عمر ابن الخطاب: ( يعجبني الرجل إذا سيم خسفا أن يقول بمليء فيه لا) ولأن ما يجري علي الساحة السياسية في بلادنا لا يعجب عاقلا فإنني أصرخ بمليء فمي :لا لا لا...
ولست هنا لأرفض لمجرد الرفض, ولا من أجل المزايدة لصالح زيد أو عمرو. وإنما أتسلح بكل عتاد الموضوعية وأقف تحت الشمس في وضح النهار في مسافة واحدة من الموالاة والمعارضة وما بينهما. وفي يميني كل معاول وفؤوس النقد السياسي الموضوعي, فقط من أجل أن أحفر عن جذور ومكونات الخطاب السياسي في بلادنا. وأبعثرها للدارسين
المتخصصين والذين لا أزلت أحار من مجانبتهم لهذا الموضوع علي الرغم من إلحاحه وخطورته!!!.
لنفترض أننا خرجنا من (حالة الطبيعة) التي افترضها فقهاء العقد الاجتماعي, وبطريقة أو أخري اتفقنا علي أن نحكم أنفسنا بأنفسنا وأن نرمي كل أشكال الحكم الأخري من النافذة. ونحن إذ نقوم بذلك فلا شك أننا نقوم به عن وعي ونضج سياسي متميز.
إن عقدين من الممارسة السياسية الواعية سواء من طرف الساسة أو الشعب الواعي الذي تعاقد معهم , جديران بخلق مناخ إيجابي
في جانب التنمية والتحديث, أو تطوير الوعي السياسي أكثر بحيث يواكب التطورات التي تحصل محليا أو دوليا.هذا إذن ما يجب أن يكون ,غير أن الحاصل هو العكس تماما. فلا أنتج هذان العقدان إلا تخلفا وتقهقرا سواء في المجال الاقتصادي في مورديه المادي والبشري.
والمجال السياسي في جانبيه : التنظير والممارسه!!!.
فأين الخلل إذن؟؟؟
ما هي أسباب النكوص المستمر للمؤسسة السياسية في موريتانيا؟
إلي أي مدي يمكن القول أن الموريتاني يمتلك وعيا سياسيا؟
ثم لماذا هذا التموضع الممنوع من الصرف للساسة الموريتانيين , وكأن الأرحام لم تعد تنجب بعد ميلادهم عقولا وأن ألسنة الموريتانيين خرساء لا تستطيع الإفصاح عن مطالبها؟
إن بناءنا الاجتماعي متفرد ومتميز , وهذه الفرادة أعطته قدرة خاصة علي مقاومة التطور ومع مرور الوقت أصبح كالجسم المريض يكون مضادات ذاتية تقاوم وتقضي علي كل وافد إليه قصد علاجه
ومثلما تستعصي هذه الحالة ابيولوجيا, فإنها أصبحت مستعصية في علم الاجتماع السياسي خاصة في موريتانيا.
ثمة خطاب واحد يحكم كل الأنظمة في هذا البناء , تتقاسمه عناصر ثلاث:
1-السلطة الأبويه
2- البرجوازية
3-المرأه
أولا: السلطة الأبوية: النظام القبلي في كل المجتمعات البدائية ذو مرجع واحد ينحصر في شيخ القبيلة , ولأن الإسلام قضي علي خرافة الطوطم والصنم وحلت محلهما عقيدة التوحيد التي تمجد التعاون و البر وتجعل الناس علي مسافة واحدة من ربهم لا يتجاوز بعضهم بعضا إلا بالتقوى , فإن النظام القبلي تعامل مع هذه المبادئ
بقسوة وظل مصرا علي انتقاص العقول وتمجيد كبار السن حتى ولو كانوا عاجزين عن تهجئة أسمائهم لأن التجربة وحدها القادرة علي تمحيص الفكر وإنجاب الحقائق وفي المقابل ظل هذا النظام يحارب كل محاولات التغيير التي تقودها الأجيال الجديده . والأمثلة علي هذا كثيرة عندنا, بدءا من محاربة تعليم الذكور في المدارس النظامية تحت طائلة الخوف من التنصير وحتى مقاومة الحركات السياسية في السبعينات والنظر إليها كوافد غربي خطير لا يجلب إلا الضلال ثم تحريم تعليم البنات في مرحلة من إحساس هذا النظام بناقوس الخطر.
إن انزياح هذا النظام أمام مد التغيير في العقود الأخيرة لا يعني أنه فقد القدرة علي المناورة , بقدر ما كان يهيئ نفسه لاستلام الأمور في اللحظة المناسبة .
إن الإعلان عن تحول موريتانيا إلي النظام الديمقراطي رغم الإكراهات الدولية التي هيأت له, إلا أن السلطة الأبوية تلقفت هذا الإعلان كحل سحري في مواجهة قوة التغيير الشبابية المتمثلة في الحركات السياسية التي كانت تنشط بقوة في الثمانينات بل وتحول نشاطها إلي محاولات جادة لقلب نظام الحكم في بعض الأحيان.
وهذا القلق المشترك من هذا الوافد الجديد بين السلطة العسكرية الحاكمة والسلطة الأبوية المهيمنة كون رحما نادرة تربي فيها الطرفان وأنجبت مولودا سياسيا جديدا رأسه سلطة القبيلة ويده التي يبطش بها هي العسكر ولسانه برجوازية طفيلية نشأت في مرحلة الانقلابات الأولي وظلت تمد ألسنتها إلي كل محاولة تنموية حيث تخبؤها في فجوة منها تماما كما تفعل أذرع الأميبا ( وحيدة الخلية). ومن أمثلة ذلك النهب الشرس لعدة بنوك محلية : اتحاد بنوك التنمية مثلا ومع مرور الزمن تقوي هذا التحالف أكثر وامتد تأثيره عبر مغازلات مقيتة لبعض أشباه المثقفين الذين دفع بهم الطمع وهشاشة التعليم والخواء من المباديء إلي الإرتماء في أحضان هذا الثالوث منظرين تارة ومناوئين أخري لا متحرفين إلي الحق وإنما من أجل الإستزادة من المنافع التي لا مورد لها سوي المال العام الذي شهد في السنوات الأخيرة استنزافا مشهودا ظل محل سؤال كبير , من أين جاء ؟-لكثرته وغلبته لهذا النهب- وكيف شاع بين الناس عامة ؟
إلا أن المطبات التي وقع فيها النظام الجديد مثل قضية المخدرات
ونضوب خزينة الدولة رغم محو ديون البنك الدولي وعجز الدولة الواضح عن توفير ضرورات الحياة الأولية كالماء والكهرباء...
كشف عن الكذبة الكبيرة التي كان هذا الثالوث المقيت يمعن في تزيينها والترويج لها , حتى أصبحت في مرحلة من طغيانها قيمة عليا ومثالا علي التطور وسرعة النمو. بل وأكثر من ذلك أخذت القبيلة رغم ضيق ذات اليد وعسر الحال تنافس عبر مجموعة من القيم تمجد الإعتماد علي الموارد المحلية لها وبلغ هذا التنافس أوجه
في الزيارات الكرنفالية للرئيس السابق ( لقد كان محرما أن يشار في خطابات الترحيب إلي حاجة المقاطعة كذا أو القرية كذا إذا طالما لم يتقدم بنو فلان بطلب فمن العيب أن يتقدم بنو فلان أيضا بطلب
بل لقد عادت إتاوة (العشر) مرة أخري في شكل مساعدات يقدمها جميع أطر القبيلة وحتي الولاية لو بدأ سيادته كرنفال التفقد الصيفي) إلي هذا المكان أو ذاك.

3-المرأه: في هذا السياق وفي ظل حميمية العلاقة بين السلطتين كان من الضروري إحياء سلطة المرأة عبر وسائط متعددة منها تشجيعها علي العمل كتاجرة وسياسية. بل وصل هذا التشجع في أقوي صوره إلي حد الترويج لها كمصلحة أكثر من الرجل حيث عينت وزيرة ومديرة وأخيرا والية وسفيرة ولا ننسي هنا أبرز فصول هذا التمجيد عندما ترشحت المرأة لرئاسيات 2003.
تجدر الإشارة هنا إلي أنني لست ضد المرأة بقدر ما أدعو إلي إشراكها في النظام السياسي بصورة جدية تجلب النفع العام لها وللبلد أيضا. إلا أن المتبصر للدور الذي تقوم به المرأة اليوم يجده محصورا في دائرة هذا الثالوث الذي أتاح لها هذه الإمتيازات لحاجة في نفس يعقوب فقط.
إن نظاما سياسيا يصل إلي هذا المستوي من التطور الشكلي يجب أن يكون قائما علي دعيمة قوية هي بالأساس الوعي السياسي والاجتماعي الناضج. فأين هذا الوعي إذن؟؟؟
إن انتشار الأمية وعدم قدسية المال العام وسوء التسيير وهشاشة النظام التعليمي وانتشار البطالة والفقر انخفاض مستوي المعيشة والصحة وووو هي مؤشرات جلية علي تدني الوعي الاجتماعي والسياسي وبالتالي دليل قوي علي أن التغير الحاصل في هرم السلطة لا يؤشر إلي تطور الوعي بقدر ما يشير إلي عودة قوية للكذبة الكبري والتي يقف صناعها الثلاثة علي أرض القرار السياسي والاجتماعي : السلطة والقبيلة والبرجوازية وأشباه المثقفين الذين تخلوا عن جميع مبادئهم وقيمهم من أجل عائد مادي صنع منهم في مراحل أخري أطرافا مؤثرة في هذه السلسلة التي بدأت من القبيلة وتطورت إلي خطاب سياسي انصهر فيه الجميع ( الحزب الجمهوري) وعندما تمزق هذا الحزب إثر انقلاب 3 اغسطس استعاد الجميع القدرة علي المناورة بدعم من القبيلة والبرجوازية التي كانت كريمة ووفيت لصديقيها وأغدقت من الأموال ما لا يخفي علي أحد
ونتيجة كل ذلك هي هذه الحركة المحمومة في صفوف هذا الثالوث متجلية في الإعلان عن حزب جديد لما أصبح يعرف بالمستقلين أو ما كان يعرف بالأمس بالجمهوريين.
أما المعارضة متمثلة في حزب اتحاد القوي الديمقراطية والتحالف الشعبي والمناضل مسعود ولد بو الخير .فإن الأعين ظلت دائما مشدودة إليهم كبديل لهذا الثالوث حتى حصل ما لم يكن في الحسبان , وذلك عندما احتضن اتحاد القوي الديمقراطية عناصر معروفة من الذين كانوا بالأمس صناع قرار في الحزب الجمهوري الأمر جعل السؤال مطروحا حول جدية الالتزام في منهج العمل السياسي لدي هذا الحزب . بل شرع هذا الزواج الغريب محرمات ظلت إلي حد قريب الرابط الوحيد بين هذا الحزب وبعض الواعين في اللعبة السياسية.
أما التحالف ورئيسه فقد قضوا علي آخر صورة تصنفهم كمعارضة ملتزمة بمبادئها عندما دخلوا مع المستقلين والقبيلة في لعبة واحدة.
إن الإقصاء المتكرر للعمالة المهاجرة والشابة وتجاهلها في القرار السياسي رغم العائد المادي الكبير الذي تساهم به في تخفيف أزمات الفقر وفي المقابل تفشي الوعي بقوة في هذه العمالة يبين أن هذا الإقصاء كان مقصودا وليس إلا امتدادا للنبذ الذي كانت تتعرض له زمن السلطات السابقه.
إن هذا الجرد السريع قد يكون أزاح بعض الغبار عن الخطاب السياسي الموريتاني وحفر عن جذوره التي بدت متصلة بالبناء الاجتماعي الضارب في التقليد والشديد العداء لكل محاولة جادة للتحديث وإنتاج وعي قادر علي القطيعة مع التخلف وأحادية القرار.

إلا أننا ورغم كل هذا ما زلنا نطمع في ظل مناخ الحرية هذا أن نستعيد القدرة علي بناء مؤسسة سياسية تتخطي كل هذه العقبات وتؤسس مجتمعا واعيا وقادرا علي تجاوز المرحلة التي يؤكد هذا الصراخ المنبعث من هنا وهناك علي ضرورة النظر إليها بحذر ووعي كبير.
أحمد محمود ولد العتيق